حمود بن سعيد البطاشي
يشهد مجتمعنا في الفترة الأخيرة حالةً من القلق بين شريحة واسعة من المواطنين، نتيجة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تتصاعد يومًا بعد يوم، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بشُحّ فرص العمل واستمرار موجات التسريح في مختلف القطاعات. ومع أن حكومتنا الرشيدة بذلت جهودًا مقدّرة في السنوات الماضية لمعالجة الاختلالات الاقتصادية، فإن الواقع اليوم يفرض مستوى أعلى من الاستجابة، وخططًا أكثر جرأة وسرعة، تعكس إدراك حجم ما تمر به الأسر من معاناة، وما يشعر به الشباب من ضيق أفق في مستقبلهم المهني والمعيشي.
لقد أصبح صوت المواطن- بما يحمله من آمال وتعبٍ وصبر- عنوانًا لهذه المرحلة؛ فهو يطالب لا بالرفاه الزائد؛ بل بالحدّ الأدنى الذي تكفل به الدولة حياةً كريمة وفرصاً عادلة. وهذا الصوت لا يجب أن يُفهم بوصفه شكوى عابرة؛ بل رسالة وطنية عميقة تدعو إلى قراءة جديدة للواقع، واتخاذ خطوات فورية تُعزّز الثقة وتعيد الأمل للمجتمع.
في كل ولاية، وفي كل قرية، وفي كل مجلس عام، تتكرر الحكاية ذاتها: شاب أنهى دراسته منذ سنوات ولا يجد عملاً، ربّ أسرة فقد مصدر دخله بسبب تسريح مفاجئ، أمّ تتحمل التزامات يومية كانت تقوم على راتب لم يعد موجودًا، وأسرة برمّتها تقف أمام تحديات الحياة بلا وسادة أمانٍ تحميها. هذا التكرار لم يعد حالة فردية؛ بل أصبح ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى تحرك وطني واسع يضع الإنسان في مقدمة الأولويات.
واستمرار التسريح في عدد من القطاعات، حتى مع تحسن بعض المؤشرات الاقتصادية، يخلق مفارقة مقلقة: فكيف يمكن أن يتحسن الاقتصاد بينما يفقد المواطن أساس استقراره؟ وكيف يمكن الحديث عن التنمية الشاملة بينما آلاف الشباب ينتظرون دورهم دون أفق واضح؟
وهذا التباين يكشف عن فجوة تحتاج إلى معالجة في سياسات سوق العمل، وإعادة تقييم مختلف الأدوات التي يمكن أن تُنعش السوق وتعيد التوازن، وعلى رأسها سياسة الإحلال المدروس التي تفتح المجال أمام الشباب لشغل الوظائف القائمة دون الإضرار بكفاءة المؤسسات أو سير عملها.
الأزمة ليست اقتصادية فحسب؛ بل اجتماعية بكل امتدادها؛ فالمواطن حين يشعر بأنه غير قادر على مجاراة متطلبات الحياة الأساسية، يفقد جزءًا من ثقته في قدرة المنظومة على حمايته. ومع تزايد الالتزامات المالية وارتفاع كلفة المعيشة، يصبح التوظيف ليس خيارًا تنمويًا فحسب، بل ضرورة اجتماعية لحماية الأسر من الضغوط المتصاعدة. وقد أثبتت التجارب أن الحلول الاقتصادية إذا لم تُدعَم بحلول إنسانية موازية، فإن أثرها سيظل محدودًا مهما بدا واعدًا على الورق.
وإلى جانب الإحلال، تبرز اليوم ضرورة فتح باب التقاعد لمن أكملوا سنوات خدمة طويلة، كخطوة إنسانية واقتصادية في آن واحد؛ فهي تمنح الموظف المستحق فرصة بدء مرحلة جديدة بكرامة، وفي الوقت ذاته تُفسح المجال لوظائف جديدة يتولاها شباب يبحثون منذ سنوات عن فرصة يستطيعون من خلالها بناء مستقبلهم. إن فتح هذا الباب المدروس سيسهم في ضخ دماء جديدة في المؤسسات، ويخفف من ضغط البطالة، ويحرك عجلة السوق.
كما إن التدريب المقرون بالتشغيل يُعدّ واحدًا من أهم الأدوات التي أثبتت نجاحها عالميًا في مواءمة مهارات الشباب مع احتياجات السوق. فرفع كفاءة الشباب وتزويدهم بمهارات عملية مباشرة، تحت ضمانة تشغيل واضحة، يخلق مسارًا سريعًا وفعّالًا للانخراط في سوق العمل، ويسهم في سد الفجوة بين التعليم والواقع المهني.
وصياغة الحل أصبحت واضحة وإن طال انتظارها؛ فالمواطن اليوم لا يطالب بالمستحيل، بل يطلب ما هو في جوهر سياسات التنمية:
- خطة توظيف عاجلة وواسعة تُعيد الثقة وتفتح أبوابًا حقيقية للشباب.
- الإحلال الذكي والمدروس لتمكين الشباب من الوظائف القائمة دون الإخلال بجودة الأداء.
- وقف نزيف التسريح من خلال سياسات تحمي العامل وتضمن استقرار الأسرة.
- فتح باب التقاعد لمن أكمل سنوات طويلة في الخدمة لإتاحة فرص جديدة.
- تفعيل التدريب المقرون بالتشغيل كمسار عملي وسريع لتمكين الشباب.
- إعادة هيكلة برامج الدعم الاجتماعي بما يتناسب مع ارتفاع تكاليف المعيشة.
- إشراك المجتمع في الحلول عبر منصات حوار تُمكّن المتضررين من إيصال صوتهم.
- تعزيز اقتصاد المحافظات والولايات لخلق فرص عمل محلية حقيقية.
وختامًا.. إنَّ الوطن اليوم على أعتاب لحظة فارقة؛ فالأزمات حين تتراكم لا تنذر فقط بضيق المعيشة، بل تتسلل إلى أعماق المجتمع وتماسكه. والحكومة، بحكم مسؤوليتها الوطنية والتاريخية، مطالبة بخطوات أسرع وقرارات أعمق تُعيد للمواطن الطمأنينة، وللسوق استقراره، وللأسر نافذة أمل تسمح لها أن تواصل الحياة بكرامة؛ فالوطن لا يُبنى بالأرقام وحدها؛ بل يُبنى حين يشعر أبناؤه بأن مؤسساتهم الوطنية تُرافقهم في كل عسرة، وتستبق أزماتهم قبل أن تستفحل.
